شيماء ربة بيت حباها الله بحسن الخلقة والخلق ، تزوجت منذ خمس عشرة سنة ، من شاب تاجر كان يقطن بجوار أهلها ، لها طفل وحيد اختار له جده لأبيه اسم موسى ، نشأ الطفل في أحضان أمه وأبيه محظوظا مدللا ، وفرت له أسرته كل وسائل التسلية و التنشيط و الترفيه ، التحق بالمدرسة في سن مبكر ، فنشأ حاضر البديهة ، حاد الذكاء ، أنيق المظهر كثير الحركة والنشاط ، تعود مرافقة والده خلال أيام عطله ، إلى المسجد، وخاصة لأداء صلاة الجمعة ، وعند القيام بمختلف الزيارات .
أمه تتعهد سلوكه وهندامه والاعتناء بواجباته باستمرار . رسخت في تصرفاته الكثير من الآداب الإسلامية النبيلة ، عند الاستيقاظ وقبل النوم ، والالتحاق بالبيت أو مغادرته ، وأثناء الأكل والحديث ، ومع الأبوين والأهل والأصدقاء ، كما حببت له صلة الرحم ، واحترام الكبير والشفقة على الصغير .حتى غدا نموذج المسلم الصغير بين أترابه وعشيرته . وكان يحلو لأبيه مناداته بالرجل الصغير ، لما عرف عنه من حب المشاركة والتدخل والمساهمة في إنجاز ما يعتبر من مهام الرجال .
.خلال إحدى العطل المدرسية رافق موسى والده في سفر إلى مسقط رأسه بقرية جبلية نائية ، وفي طريق عودتهما . لاحظ علامات التعب والعياء على أبيه ، بسبب السهرمع الأقارب بالقرية ، وبسبب طول الطريق وتعرجاتها ، فطلب منه أخذ قسط من الراحة قبل متابعة السير ، لكن الأب تعلل برغبته في الوصول قبل غروب الشمس ، ألح الطفل ثم ألح فلم يستجب أبوه ، وفي أحد المنعرجات الحادة ، زاغت السيارة بهما نحو جهة اليمين حيث الأشجار والصخور ، فعالج الأب الموقف بردة فعل المتفاجئ ،إلا أنها كانت أقوى من القدر اللازم ، فزاغت نحو الجهة الأخرى ، وانكبت في منحدرمائل و سحيق ، صاح الأب مرددا الشهادتين ومتضرعا طالبا النجاة .
التفت الطفل إلى جهته اليمنى فألفى وكأنهم يحلقون في الفضاء ، وضع كفيه على عينيه وأخذ يردد بعض ما حفظ من آيات وأدعية . انقلب صفير الريح إلى عويل الذئاب المتوحشة المفترسه . فجأة شعر برجة عنيفة صاحبها صوت اصطدام هيكل السيارة برمال الوادي . ارتطم رأسه وأحس بكماشة ذات أظافر حديدية تعصر جسمه وتقضم أطرافه . سمع صوت والده يئن ويتألم ويستغيث . لا طاقة لأي منهما بإنقاد الآخر . بعد برهة كست الدماء وجه موسى ، وتسربت عبر عنقه إلى صدره وباقي أجزاء جسمه . استسلم لغيبوبة و لم يستيقظ إلا بإحدى قاعات المستشفى ، وهو فاقد القدرة على الحركة والكلام . يرى ما حوله بمشقة وضبابية ، ويسمع الأصوات بعيدة وثقيلة متباطئة . التفت يمنة ويسرة لم يجد والده فتيقن من أنه قضى بمكان الحادث .
خضع لعلاج مكثف وطويل ، بترت خلاله أطرافه وأجريت له عمليات جراحية على جل أعضاء جسمه .
أمه كانت من بين الأوائل الذين حضروا إلى مكان الحادث أشرفت على إنقاده ، كما ساهمت في إخراج جثة أبيه من تحت الحطام ، وأعدت ما يلزم للتشييع والدفن والتأبين .ضمدت جراحها وكفكفت دموعها ، وتجندت من أجل ابنها، طامعة في إنقاد حياته . قضى في المصحات والمستشفيات أزيد من سنتين . اضطرت خلالها إلى ملازمة سرير ابنها المتأرجح بين الحياة والموت ، ووكلت عنها مساعد زوجها المرحوم ، وفوضت له مهام تدبير تجارتها .
لا تدري أين كانت هذه الكوارث مختبئة ؟ فظهرت في حياتها فجأة ، ودفعة واحدة ، ولا متى أخذت تستعد لها وتتربص بها؟
أظهر وكيلها من البر واللطف والاستقامة والتفاني ما جعله محط تقدير وتبجيل لديها .واقتنعت بأهمية تواجده إلى جانبها .ولماشعر الوكيل بصابغ رضاها عليه وعلى تصرفاته ، تأكد من دنو وقت قطوف ثماره ، فبادر بطلب يدها . لم تتردد في القبول . وعمل على استمرار الود حتى بعد انتقال الابن المعاق ليعيش معهم ببيت أبيه .
ولما تمكن الزوج الجديد ،استبد بالرأي وكشف عن وجهه الحقيقي المستور خلف جده وتمسكنه ، فأخذ يطالب الأم بالتخلي عن ابنها وتسليمه إلى دور الرعاية الحكومية . حاولت مرارا إرضاءه وإقناعه ، ولما هددها بطردها صحبة ابنها المعاق من البيت ، وإغلاق كل الأبواب والمنافذ دونهما، تيقنت بأنها وقعت فريسة في فم ثعلب متوحش وجائع ، وسقطت في شراك رجل محتال مخادع طامع .
ندمت في الوقت الذي ربما لن ينفعها فيه ندم . لقد أزاح عن محياه نقاب الحمل الوديع ، ورفع عنه رداء المحب المتفاني ، وكشر عن أنياب الثعبان الغادر اللادغ .
انزوت بأحد أركان ييتها وتساءلت مع نفسها ، أتنقصني وسيلة لردع هذا السافل والرد عليه ؟.
استعرضت في مخيلتها سلسلة من المكائد ، وفاضلت بينها ، واختارت أنجعها ، لتنتقم بها لنفسها ، وتسترجع بفضلها ما اغتصب منها ، وتكتسب بعدها المناعة والحصانة الواقية من أي خطأ مشابه.